فصل: فصــل: في المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فـصــل

ومن ذلك عقوبة المحاربين، وقطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها، ليغصبوهم المال مجاهرة‏:‏ من الأعراب، والتركمان، والأكراد، والفلاحين، وفسقة الجند، أو مردة الحاضرة،/ أو غيرهم، قال الله ـ تعالى ـ فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقد روي الشافعي ـ رحمه الله ـ في مسنده عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قطاع الطريق‏:‏ ‏(‏إذا قتلوا وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا، نفوا من الأرض‏)‏‏.‏

وهذا قول كثير من أهل العلم، كالشافعي وأحمد، وهو قريب من قول أبي حنيفة ـ رحمه الله‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ للإمام أن يجتهد فيهم، فيقتل من رأي قتله مصلحة، وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسًا مطاعا فيها، ويقطع من رأي قطعه مصلحة، وإن كان لم يأخذ المال، مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال، كما أن منهم من يري أنهم إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا‏.‏ والأول قول الأكثر‏.‏ فمن كان من المحاربين قد قتل، فإنه يقتله الإمام حدا، لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء‏.‏ ذكره ابن المنذر، ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول، بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو /ذلك من الأسباب الخاصة، فإن هذا دمه لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية؛ لأنه قتله لغرض خاص‏.‏

وأما المحاربون، فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام، بمنزلة السراق، فكان قتلهم حدًا لله‏.‏ وهذا متفق عليه بين الفقهاء، حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل، مثل أن يكون القاتل حرًا والمقتول عبدًا، أو القاتل مسلمًا، والمقتول ذميًا أو مستأمنا، فقد اختلف الفقهاء‏:‏ هل يقتل في المحاربة‏؟‏ والأقوي أنه يقتل؛ لأنه قتل للفساد العام حدًا، كما يقطع إذا أخذ أموالهم، وكما يحبس بحقوقهم‏.‏

وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه، والباقون له أعوان وردء له، فقد قيل‏:‏إنه يقتل المباشر فقط،والجمهور على أن الجميع يقتلون،ولو كانوا مائة، وإن الردء والمباشر سواء، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين؛ فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قتل ربيئة المحاربين‏.‏ والربيئة‏:‏ هو الناظر الذي يجلس على مكان عال، ينظر منه لهم من يجيء‏.‏ ولأن المباشر إنما تمكن من قتله بقوة الردء ومعونته‏.‏

والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين، فهم مشتركون في الثواب والعقاب، كالمجاهدين‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم /قال‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعي بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ويرد متسريهم على قعدهم‏)‏‏.‏ يعني أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت؛ لأنها بظهره وقوته تمكنت، لكن تنفل عنه نفلا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية إذا كانوا في بدايتهم الربع بعد الخمس، فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية نفلهم الثلث بعد الخمس، وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية؛ لأنها في مصلحة الجيش، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير يوم بدر؛ لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش، فأعوان الطائفة الممتنعة، وأنصارها منها، فيما لهم وعليهم‏.‏

وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه، مثل المقتتلين على عصبية، ودعوي جاهلية، كقيس ويمن ونحوهما هما ظالمتان‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا التقي المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إنه أراد قتل صاحبه‏)‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وتضمن كل طائفة ما أتلفته للأخري من نفس ومال‏.‏ وإن لم يعرف عين القاتل؛ لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد، وفي ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عليكم الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏‏.‏

/وأما إذا أخذوا المال فقط، ولم يقتلوا ـ كما قد يفعله الأعراب كثيرا ـ فإنه يقطع من كل واحد يده إلىمني، ورجله إلىسري، عند أكثر العلماء‏:‏ كأبي حنيفة، وأحمد وغيرهم‏.‏ وهذا معني قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏، تقطع إلىد التي يبطش بها، والرجل التي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله بالزيت المغلي ونحوه؛ لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه، وكذلك تحسم يد السارق بالزيت‏.‏

وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل؛ فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم، إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع إلىد والرجل،ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا،بخلاف القتل،فإنه قد ينسي، وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف، فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله‏.‏ وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسًا، ولم يأخذوا مالا، ثم أغمدوه، أو هربوا، وتركوا الحراب، فإنهم ينفون‏.‏ فقيل‏:‏ نفيهم تشريدهم، فلا يتركون يأوون في بلد‏.‏ وقيل‏:‏ هو حبسهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما يراه الإمـام أصلـح من نفـي أو حبـس أو نحو ذلك‏.‏

والقتل المشروع‏:‏ هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه؛ لأن ذلك أروح أنواع القتل، وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم، /إذا قدر عليه على هذا الوجه‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته‏)‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان‏)‏‏.‏ وأما الصلب المذكور‏:‏ فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس، ويشتهر أمرهم، وهو بعد القتل عند جمهور العلماء‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون‏.‏ وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف، حتى قال‏:‏ يتركون على المكان العإلى، حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل‏.‏

فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عمران بن حصين ـ رضي الله عنهما‏:‏ مـا خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمـرنا بالصدقة، ونهانـا عـن المثلة، حتى الكفار إذا قتلناهم، فإنا لا نمثل بهم بعد القتل، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم، ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم مثل ما فعلوا‏.‏ والترك أفضل كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126، 127‏]‏‏.‏ قيل‏:‏ إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد ـ رضي الله عنهم ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا‏)‏ فأنزل الله هذه الآية، وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة، /مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏، وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة، ثم جري بالمدينة سبب يقتضي الخطاب، فأنزلت مرة ثانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بل نصبر‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أو جيش أو فـي حاجة نفسه أوصاه فـي خاصـة نفسـه بتقوي الله ـ تعالى ـ وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم يقول‏:‏ ‏(‏اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا‏)‏‏.‏

ولو شهروا السلاح في البنيان ـ لا في الصحراء ـ لأخذ المال، فقد قيل‏:‏ إنهم ليسوا محاربين، بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب؛ لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس‏.‏ وقال أكثرهم‏:‏ إن حكمهم في البنيان والصحراء واحد‏.‏ وهذا قول مالك ـ في المشهور عنه ـ والشافعي، وأكثر أصحـاب أحمد، وبعض أصحاب أبي حنيفة، بـل هـم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر / لا يكون معه ـ غالبا ـ إلا بعض ماله‏.‏ وهذا هو الصواب؛ لا سيما هؤلاء المتحزبون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر المنْسَر وكانوا يسمون ببغداد العيارين، ولو حاربوا بالعصي والحجارة المقذوفة بالأيدي، أو المقإلىع ونحوها، فهم محاربون ـ أيضا‏.‏ وقد حكي عن بعض الفقهاء‏:‏ لا محاربة إلا بالمحدد‏.‏ وحكي بعضهم الإجماع على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل‏.‏ وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن‏.‏

فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين‏:‏ أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال، فهو محارب قاطع، كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع، كان من أنواع القتال فهو حربي، ومـن قاتـل الكفـار مـن المسلمـين بسـيف، أو رمـح، أو سـهم، أو حجارة أو عصي، فهو مجاهد في سبيل الله‏.‏ وأما إذا كان يقتل النفوس سرا، لأخذ المال، مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة، أو طب أو نحو ذلك فيقتله، ويأخذ ماله، وهذا يسمي القتل غيلة، ويسميهم بعض العامة المعرجين، فإذا كان لأخذ المال، فهل هم كالمحاربين، أو يجري عليهم حكم القود‏؟‏ فيه قولان للفقهاء‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم كالمحاربين؛ لأن القتل بالغيلة كالقتل مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا / يدري به‏.‏

والثاني‏:‏ أن المحارب هو المجاهر بالقتال، وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم‏.‏ والأول أشبه بأصول الشريعة، بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به‏.‏

واختلف الفقهاء ـ أيضا ـ فيمن يقتل السلطان، كقتلة عثمان، وقاتل على ـ رضي الله عنهما ـ هل هم كالمحاربين، فيقتلون حدا، أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد وغيره؛ لأن في قتله فسادًا عامًا‏.‏

 فـصـــل

وهذا كله إذا قدر عليهم‏.‏ فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه؛ لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه، فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلهم‏.‏ ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم، قوتلوا‏.‏ وإن أفضي إلى ذلك، سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا‏.‏ ويقتلون في القتال كيفما أمكن في العنق وغيره‏.‏ ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم، فهذا قتال، وذاك إقامة حد‏.‏ وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام‏.‏ /فإن هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والأموال، وهلاك الحرث والنسل، ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك‏.‏

وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى حصن، أو مغارة أو رأس جبل، أو بطن واد، ونحو ذلك، يقطعون الطريق على من مر بهم، وإذا جاءهم جند ولي الأمر يطلبهم للدخول في طاعة المسلمـين والجماعـة لإقامـة الحدود، قاتلوهم ودفعوهـم، مثـل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات، أو الجبلية الذين يعتصمون برؤوس الجبال أو المغارات لقطع الطريق‏.‏ وكالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق، ويسمون ذلك ‏[‏النهيضة‏]‏، فإنهم يقاتلون ـ كما ذكرنا ـ لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار، إذا لم يكونوا كفارا، ولا تؤخذ أموالهم إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق، فإن عليهم ضمانها، فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا، وإن لم نعلم عين الآخذ‏.‏ وكذلك لو علم عينه، فإن الردء والمباشر سواء ـ كما قلناه ـ لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه، ويرد ما يؤخذ منهم على أرباب الأموال، فإن تعذر الرد عليهم، كان لمصالح المسلمين من رزق الطائفة المقاتلة لهم، وغير ذلك‏.‏

بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود، ومنعهم من الفساد‏.‏ فإذا جرح الرجل منهم جرحًا مثخنًا، لم يجهز عليه حتى يموت، / إلا أن يكون قد وجب عليه القتل‏.‏ وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه، إلا أن يكون عليه حد أو نخاف عاقبته، ومن أسر منهم، أقيم عليه الحد الذي يقام على غيره‏.‏ ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يري غنيمة أموالهم وتخميسها، وأكثرهم يأبون ذلك‏.‏ فأما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارجـة عـن شريعـة الإسلام، وأعانوهم على المسلمين، قوتلوا كقتالهم‏.‏

وأما من كان لا يقطع الطريق، ولكنه يأخذ خفارة أو ضريبة من أبناء السبيل على الرؤوس، والدواب، والأحمال ونحو ذلك، فهذا مكاس، عليه عقوبة المكاسين‏.‏ وقد اختلف الفقهاء في جواز قتله، وليس هو من قطاع الطريق، فإن الطريق لا ينقطع به، مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية‏:‏ ‏(‏لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس، لغفر له‏)‏‏.‏ ويجوز للمظلومين ـ الذين تراد أموالهم ـ قتال المحاربين بإجماع المسلمين‏.‏ ولا يجب أن يبذل لهم من المال لا قليل ولا كثير، إذا أمكن قتالهم‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد‏)‏‏.‏

وهذا الذي تسميه الفقهاء ‏[‏الصائل‏]‏ وهو الظالم بلا تأويل ولا /ولاية‏.‏فإذا كان مطلوبه المال، جاز دفعه بما يمكن، فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل، وإن ترك القتال وأعطاهم شيئا من المال جاز، وأما إذا كان مطلوبه الحرمة، مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان، أو يطلب من المرأة، أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به، فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن، ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال بخلاف المال، فإنه يجوز التمكين منه؛ لأن بذل المال جائز، وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز‏.‏ وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان، جاز له الدفع عن نفسه‏.‏ وهل يجب عليه‏؟‏ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره‏.‏ وهذا إذا كان للناس سلطان، فأما إذا كان ـ والعياذ بالله ـ فتنة، مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين، ويقتتلان على الملك، فهل يجوز للإنسان إذا دخل أحدهما بلد الآخر، وجري السيف، أن يدفع عن نفسه في الفتنة، أو يستسلم فلا يقاتل فيها‏؟‏ على قولين لأهل العلم في مذهب أحمد وغيره‏.‏

فإذا ظفر السلطان بالمحاربين الحرامية ـ وقد أخذوا الأموال التي للناس ـ فعليه أن يستخرج منهم الأموال التي للناس، ويردها عليهم، مع إقامة الحد على أبدانهم‏.‏ وكذلك السارق، فإن امتنعوا من إحضار المال بعد ثبوته عليهم عاقبهم بالحبس والضرب، حتى يمكنوا من أخذه بإحضاره أو توكيل من يحضره، أو الإخبار بمكانه، كما يعاقب كل ممتنع /عن حق وجب عليه أداؤه، فإن الله قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت، فامتنعت من الحق الواجب عليها حتى تؤديه‏.‏ فهؤلاء أولي وأحري‏.‏ وهذه المطالبة والعقوبة حق لرب المال، فإن أراد هبتهم المال، أو المصالحة عليه، أو العفو عن عقوبتهم، فله ذلك، بخلاف إقامة الحد عليهم، فإنه لا سبيل إلى العفو عنه بحال، وليس للإمام أن يلزم رب المال بترك شيء من حقه‏.‏

وإن كانت الأموال قد تلفت بالأكل وغيره عندهم أو عند السارق، فقيل‏:‏ يضمنونها لأربابها، كما يضمن سائر الغارمين، وهو قول الشافعي وأحمد ـ رضي الله عنهما ـ وتبقي مع الإعسار في ذمتهم إلى ميسرة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجتمع الغرم والقطع، وهو قول أبي حنيفة ـ رحمه الله‏.‏ وقيل‏:‏ يضمنونها مع إلىسار فقط دون الإعسار، وهو قول مالك ـ رحمه الله‏.‏

ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلا على طلب المحاربين، وإقامة الحد، وارتجاع أموال الناس منهم، ولا على طلب السارقين، لا لنفسه، ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله، فيخرج فيه جند المسلمين، كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمي ‏[‏البيكار‏]‏‏.‏ وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة، فإن كان لهم إقطاع أو عطاء يكفيهم، وإلا أعطاهم تمام كفاية غزوهم من مال المصالح من الصدقات،/ فإن هذا من سبيل الله‏.‏ فإن كان على أبناء السبيل المأخوذين زكاة، مثل التجار الذين قد يؤخذون، فأخذ الإمام زكاة أموالهم، وأنفقها في سبيل الله، كنفقة الذين يطلبون المحاربين جاز‏.‏ ولو كانت لهم شوكة قوية تحتاج إلى تأليف، فأعطي الإمام من الفيء والمصالح والزكاة لبعض رؤسائهم يعينهم على إحضار الباقين، أو لترك شره فيضعف الباقون ونحو ذلك جاز، وكان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم، وقد ذكر مثل ذلك غير واحد من الأئمة، كأحمد وغيره، وهو ظاهر الكتاب والسنة وأصول الشريعة‏.‏

ولا يجوز أن يرسل الإمام من يضعف عن مقاومة الحرامية، ولا من يأخذ مالاً من المأخوذين‏:‏ التجار ونحوهم من أبناء السبيل، بل يرسل من الجند الأقوياء الأمناء، إلا أن يتعذر ذلك، فيرسل الأمثل فالأمثل‏.‏

فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القري ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ في الباطن أو الظاهر، حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم، وأرضي المأخوذين ببعض أموالهم، أو لم يرضهم، فهذا أعظم جرمًا من مقدم الحرامية؛ لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا‏.‏ والواجب أن يقال فيه ما يقال في الردء والعون لهم‏.‏ فإن قتلوا، قتل هو على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وأكثر أهل / العلم‏.‏ وإن أخذوا المال، قطعت يده ورجله، وإن قتلوا وأخذوا المال، قتل وصلب، وعلى قول طائفة من أهل العلم‏:‏ يقطع ويقتل ويصلب‏.‏ وقيل‏:‏ يخير بين هذين، وإن كان لم يأذن لهم، لكن لما قدر عليهم قاسمهم الأموال، وعطل بعض الحقوق والحدود‏.‏

ومن آوي محاربًا أو سارقًا، أو قاتلا ونحوهم،ممن وجب عليه حد أو حق لله ـ تعالى ـ أو لآدمي، ومنعه أن يستوفي منه الواجب بلا عدوان، فهو شريكه في الجرم‏.‏ وقد لعنه الله ورسوله‏.‏ روي مسلم في صحيحه، عن على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول لله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعن الله من أحدث حدثا أو آوي محدثا‏)‏‏.‏ وإذا ظفر بهذا الذي آوي المحدث، فإنه يطلب منه إحضاره، أو الإعلام به، فإن امتنع، عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث، كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب‏.‏ فمن وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها‏.‏

ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق، أو الرجل المطلوب بحق، وهو الذي يمنعه، فإنه يجب عليه الإعلام به والدلالة عليه‏.‏ ولا يجوز كتمانه، فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوي، وذلك واجب، بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل، فإنه لا يحل الإعلام به؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، بل يجب الدفع عنه؛ لأن /نصر المظلوم واجب، ففي الصحيحين، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه‏)‏‏.‏

وروي مسلم نحوه عن جابر، وفي الصحيحين عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع‏:‏ أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، وإجابة الدعوة، ونصر المظلوم ‏[‏وإفشاء السلام‏]‏، ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب بالفضة، وعن المياثر، وعن لبس الحرير، والقسي، والديباج، والإستبرق‏.‏ فإن امتنع هذا العالم به من الإعلام بمكانه، جازت عقوبته بالحبس وغيره، حتى يخبر به؛ لأنه امتنع من حق واجب عليه، لا تدخله النيابة‏.‏ فعوقب كما تقدم، ولا تجوز عقوبته على ذلك، إلا إذا عرف أنه عالم به‏.‏

وهذا مطرد في ما تتولاه الولاة والقضاة وغيرهم، في كل من امتنع من واجب، من قول أو فعل، وليس هذا بمطالبة للرجل بحق وجب على غيره، ولا عقوبة على جناية غيره، حتى يدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَي‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا لا يجني جان إلا على نفسه‏)‏‏.‏ وإنما ذلك مثل أن يطلب بمال قد /وجب على غيره، وهو ليس وكيلاً ولا ضامنًا ولا له عنده مال‏.‏ أو يعاقب الرجل بجريرة قريبه أو جاره، من غير أن يكون هو قد أذنب، لا بترك واجب، ولا بفعل محرم، فهذا الذي لا يحل‏.‏ فأما هذا فإنما يعاقب على ذنب نفسه، وهو أن يكون قد علم مكان الظالم الذي يطلب حضوره لاستيفاء الحق، أو يعلم مكان المال الذي قد تعلق به حقوق المستحقين، فيمتنع من الإعانة والنصرة الواجبة عليه في الكتاب والسنة والإجماع، إما محاباة أو حمية لذلك الظالم، كما قد يفعل أهل العصبية بعضهم ببعض، وإما معاداة أو بغضا للمظلوم‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وإما إعراضا ـ عن القيام لله والقيام بالقسط الذي أوجبه الله ـ وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه، كما يفعل التاركون لنصر الله ورسوله، ودينه وكتابه، الذين إذا قيل لهم‏:‏ انفروا في سبيل الله اثاقلوا إلى الأرض‏.‏

وعلى كل تقدير، فهذا الضرب يستحق العقوبة باتفاق العلماء‏.‏

ومن لم يسلك هذه السبل، عطل الحدود وضيع الحقوق، وأكل القوي الضعيف‏.‏

وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أو دين، وقد امتنع /من تسليمه لحاكم عادل، يوفي به دينه، أو يؤدي منه النفقة الواجبة عليه لأهله أو أقاربه أو ممإليكه أو بهائمه‏.‏ وكثيرًا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره، كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبة، وكما تجب الدية على عاقلة القاتل‏.‏ وهذا الضرب من التعزير عقوبة لمـن علـم أن عنـده مالا أو نفسا يجب إحضاره، وهو لا يحضره؛ كالقطاع والسراق وحماتهم، أو علم أنه خبير به وهو لا يخبر بمكانه‏.‏ فأما إن امتنع من الإخبار والإحضار؛ لئلا يتعدي عليه الطالب أو يظلمه، فهذا محسن‏.‏ وكثيرًا ما يشتبه أحدهما بالآخر، ويجتمع شبهة وشهوة‏.‏ والواجب تمييز الحق من الباطل‏.‏

وهذا يقع كثيرًا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة، إذا استجار بهم مستجير، أو كان بينهما قرابة أو صداقة، فإنهم يرون الحمية الجاهلية، والعزة بالإثم، والسمعة عند الأوباش‏:‏ أنهم ينصرونه ـ وإن كان ظالما مبطلا ـ على المحق المظلوم، لا سيما إن كان المظلوم رئيسا يناديهم ويناويهم، فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناويهم ذلا أو عجزا، وهذا ـ على الإطلاق ـ جاهلية محضة‏.‏ وهي من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا‏.‏ وقد ذكر أنه إنما كان سبب كثير من حروب الأعراب، كحرب البسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب، إلى نحو هذا، وكذلك سبب دخول الترك والمغول دار الإسلام، /واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان، كان سببه نحو هذا‏.‏

ومن أذل نفسه لله فقد أعزها،ومن بذل الحق من نفسه فقد أكرم نفسه، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن اعتز بالظلم‏:‏ من منع الحق، وفعل الإثم، فقد أذل نفسه وأهانها، قـال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، وقال ـ تعالى ـ عن المنافقين‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقال الله ـ تعالى ـ في صفة هذا الضرب‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّي سَعَي فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 204‏:‏ 206‏]‏‏.‏

وإنما الواجب على من استجار به مستجير ـ إن كان مظلوما ينصره‏.‏ ولا يثبت أنه مظلوما بمجرد دعواه، فطالما اشتكي الرجل وهو ظالم، بل يكشف خبره من خصمه وغيره، فإن كان ظالمًا رده عن الظلم بالرفق إن أمكن، إما من صلح أو حكم بالقسط، وإلا فبالقوة‏.‏

وإن كان كل منهم ظالمًا كأهل الأهواء من قيس ويمن/ ونحوهم،وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي، أو كانا جميعا غير ظالمين، لشبهة أو تأويل، أو غلط وقع فيما بينهما، سعي بينهما بالإصلاح، أو الحكم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الْأُخْرَي فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9، 10‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 114‏]‏‏.‏ وقد روي أبو داود في السنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له‏:‏ أمن العصبية أن ينصر الرجل قومه في الحق‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه في الباطل‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏خيركم الدافع عن قومه ما لم يأثم‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏مثل الذي ينصر قومه بالباطل كبعير تردي في بئر فهو يجر بذنبه‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏من سمعتموه يتعزي بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا‏)‏‏.‏

وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن‏:‏ من نسـب أو بـلد، أو جنــس أو مذهب، أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار فقال المهاجري‏:‏ يا للمهاجرين،/وقال الأنصاري‏:‏ ياللأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم‏؟‏‏)‏‏.‏ وغضب لذلك غضبًا شديدًا‏.‏

 فصــل

وأما السارق فيجب قطع يده إلىمني بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عليه إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 38، 39‏]‏، ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة عليه، أو بالإقرار تأخيره، لا بحبس، ولا مال يفتدي به ولا غيره، بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها؛ فإن إقامة الحد من العبادات، كالجهاد في سبيل الله‏.‏ فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده، فيكون الوإلى شديدًا في إقامة الحد؛ لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا شفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق، بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده ـ كما تشير به الأم رقة ورأفة ـ لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به، وإصلاحًا لحاله، مع أنه يود ويؤثر ألا يحوجه إلى تأديب، وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل، والحجم ،وقطع / العروق بالفصاد، ونحو ذلك، بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه‏.‏ وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة‏.‏

فهكذا شرعت الحدود، وهكذا ينبغي أن تكون نية الوإلى في إقامتها، فإنه متى كان قصده صلاح الرعية والنهى عن المنكرات، بجلب المنفعة لهم، ودفع المضرة عنهم، وابتغي بذلك وجه الله ـ تعالى ـ وطاعة أمره، ألان الله له القلوب، وتيسرت له أسباب الخير، وكفاه العقوبة البشرية، وقد يرضي المحدود، إذا أقام عليه الحد‏.‏

وأما إذا كان غرضه العلو عليهم، وإقامة رياسته ليعظموه، أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال، انعكس عليه مقصوده‏.‏ ويروي أن عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ساسهم سياسة صالحة، فقدم الحجاج من العراق، وقد سامهم سوء العذاب‏.‏ فسأل أهل المدينة عن عمر‏:‏ كيف هيبته فيكم‏؟‏ قالوا‏:‏ ما نستطيع أن ننظر إليه‏.‏ قال‏:‏ كيف محبتكم له‏؟‏ قالوا‏:‏ هو أحب إلينا من أهلنا‏.‏ قال‏:‏ فكيف أدبه فيكم‏؟‏ قالوا‏:‏ ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة‏.‏ قال‏:‏ هذه هيبته، وهذه محبته، وهذا أدبه، هذا أمر من السماء‏.‏

وإذا قطعت يده حسمت، ويستحب أن تعلق في عنقه ‏.‏فإن / سرق ثانيا، قطعت رجله إلىسري‏.‏ فإن سرق ثالثا، ورابعًا، ففيه قولان للصحابة، ومن بعدهم من العلماء‏:‏ أحدهما‏:‏ تقطع أربعته في الثالثة والرابعة، وهو قول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ومذهب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يحبس، وهو قول على ـ رضي الله عنه ـ والكوفيين، وأحمد في روايته الأخري‏.‏

وإنما تقطع يده إذا سرق نصابا، وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم، عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم، كمالك، والشافعي، وأحمد‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ دينار أو عشرة دراهم‏.‏ فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق، وفي الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم‏.‏ وفي لفظ لمسلم‏:‏ قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم، والمجن‏:‏ الترس‏.‏ وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا‏)‏‏.‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏(‏لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا‏)‏‏.‏ وفي رواية للبخاري‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدني من ذلك‏)‏‏.‏ وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهما‏.‏

ولا يكون السارق سارقًا حتى يأخذ المال من حرز، فأما المال / الضائــع من صاحبه، والثمر الذي يكون في الشجر في الصحــراء بلا حائط، والماشيــة التي لا راعي عندها ونحو ذلك، فلا قطع فيه، لكن يعزر الآخذ، ويضاعف عليه الغرم، كما جاء به الحديث ‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في التضعيف، وممن قال به أحمد وغيره‏.‏ قال رافع بن خديج‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا قطع في ثمر ولا كَثر‏)‏ والكَثْرُ‏:‏ جمار النخل‏.‏ رواه أهل السنن‏.‏ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا رسول الله، جئت أسألك عن الضالة من الإبل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏معها حذاؤها وسقاؤها، تأكل الشجر، وترد الماء، فدعها حتى يأتيها باغيها‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فالضالة من الغنم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لك أو لأخيك أو للذئب، تجمعها حتى يأتيها باغيها‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فيها ثمنها مرتين، وضرب نكال‏.‏ وما أخذ من عَطَنه، ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن‏)‏‏.‏ قال‏:‏ يا رسول الله، فالثمار وما أخذ منها من أكمامها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من أخذ منها بفمه، ولم يتخذ خُبنَة، فليس عليه شيء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين، وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع، إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المِجَنّ، وما لم يبلغ ثمن المِجَنِّ، ففيه غرامة مثليه، وجلدات نكال‏)‏‏.‏ رواه أهل / السنن‏.‏ لكن هذا سياق النسائي؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع‏)‏، فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون، والمختلس الذي يجتذب الشيء، فيعلم به قبل أخذه، وأما الطرار ـ وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها ـ فإنه يقطع على الصحيح‏.‏

 فصــل

وأمـا الزاني، فإن كـان محصنا، فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت كمـا رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك الأسلمي، ورجم الغامدية، ورجم إليهوديين، ورجم غير هؤلاء، ورجم المسلمون بعده‏.‏ وقد اختلف العلماء‏:‏ هل يجلد قبل الرجم مائة‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد وغيره‏.‏ وإن كان غير محصن، فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله، ويغرب عاما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض العلماء لا يري وجوب التغريب‏.‏

ولا يقام عليه الحـد حتى يشهد عليه أربعـة شـهداء، أو يشهد على نفسه أربع شهادات، عند كثير من العلماء أو أكثرهم‏.‏ ومنهم من يكتفي بشهادته على نفسه مرة واحدة، ولو أقر على نفسه، ثم رجع / فمنهم من يقول‏:‏ يسقط عنه الحد،ومنهم من يقول‏:‏ لا يسقط‏.‏

والمحصن من وطئ ـ وهو حر مكلف ـ لمن تزوجها نكاحا صحيحًا في قبلها، ولو مرة واحدة‏.‏ وهل يشترط أن تكون الموطوءة مساوية للواطئ في هذه الصفات‏؟‏ على قولين للعلماء‏.‏‏.‏‏.‏ وهل تحصن المراهقة للبالغ وبالعكس‏؟‏

فأما أهل الذمة، فإنهم محصنون ـ أيضا ـ عنـد أكثر العلماء كالشافعي وأحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين عند باب مسجده، وذلك أول رجم كان في الإسلام‏.‏

واختلفوا في المرأة إذا وجدت حبلي، ولم يكن لها زوج ولا سيد، ولم تدع شبهة في الحبل‏.‏ ففيها قولان في مذهب أحمد وغيره‏:‏ قيل‏:‏ لا حد عليها؛ لأنه يجوز أن تكون حبلت مكرهة، أو بتحمل، أو بوطء شبهة‏.‏ وقيل‏:‏ بل تحد، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، وهو الأشبه بأصول الشريعة، وهو مذهب أهل المدينة؛ فإن الاحتمالات النادرة لا يلتفت إليها، كاحتمال كذبها، وكذب الشهود‏.‏

وأما اللواط، فمن العلماء من يقول‏:‏ حده كحد الزنا‏.‏ وقد قيل دون ذلك‏.‏ والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة‏:‏ أن يقتل الاثنان، الأعلى والأسفل، سواء كانا محصنين أو غير محصنين؛ فإن أهل السنن رووا عن ابن/ عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏)‏‏.‏ وروي أبو داود عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في البكر يوجد على اللوطية‏.‏ قال‏:‏ يرجم‏.‏ ويروي عن على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ نحو ذلك‏.‏

ولم تختلف الصحابة في قتله، ولكن تنوعوا فيه‏.‏ فروي عن الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه أمر بتحريقه‏.‏ وعن غيره‏:‏ قتله، وعن بعضهم‏:‏ أنه يلقي عليه جدار حتى يموت تحت الهدم، وقيل‏:‏ يحبسان في أنتن موضع حتى يموتا‏.‏ وعن بعضهم‏:‏ أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ويرمي منه، ويتبع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط‏.‏ وهذه رواية عن ابن عباس‏.‏ والرواية الأخري قال‏:‏ يرجم، وعلى هـذا أكثـر السلف، قالـوا‏:‏ لأن الله رجـم قوم لوط، وشرع رجم الزاني تشبيها برجم قوم لوط، فيرجـم الاثنان، سـواء كانا حريـن أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكا والآخر حرًا، إذا كانا بالغين، فإن كان أحدهما غير بالغ، عوقب بما دون القتل، ولا يرجم إلا البالغ‏.‏

/ فصــل

وأما حد الشرب، فإنه ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، فقد روي أهل السنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه‏)‏، وثبت عنه أنه جلد الشارب غير مرة، هو وخلفاؤه والمسلمون بعده‏.‏

والقتل عند أكثر العلماء منسوخ‏.‏ وقيل‏:‏ هو محكم‏.‏ يقال‏:‏هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة‏.‏

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه ضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين‏.‏ وضرب أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أربعين، وضرب عمر في خلافته ثمانين‏.‏ وكان على ـ رضي الله عنه ـ يضرب مرة أربعين، ومرة ثمانين‏.‏ فمن العلماء من يقول‏:‏ يجب ضرب الثمانين‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ الواجب أربعون، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة، إذا أدمن الناس الخمر، أو كان الشارب ممن لا يرتدع بدونها، ونحو ذلك‏.‏

/فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي الأربعون‏.‏ وهذا أوجه القولين، وهو قول الشافعي وأحمد ـ رحمهما الله ـ في إحدي الروايتين عن أحمد‏.‏

وقد كان عمر ـ رضي الله عنه لما كثر الشرب ـ زاد فيه النفي وحلق الرأس مبالغة في الزجر عنه، فلو غرب الشارب مع الأربعين لينقطع خبره، أو عزله عن ولايته كان حسنا؛ فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بلغه عن بعض نوابه أنه تمثل بأبيات في الخمر فعزله‏.‏

والخمر التي حرمها الله ورسوله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها، كل شراب مسكر من أي أصل كان، سواء كان من الثمار كالعنب، والرطب، والتين‏.‏ أو الحبوب، كالحنطة، والشعير‏.‏ أو الطلول كالعسل‏.‏ أو الحيوان، كلبن الخيل‏.‏ بل لما أنزل الله ـ سبحانه وتعالى ـ على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر، لم يكن عندهم بالمدينة من خمر العنب شيء؛ لأنه لم يكن بالمدينة شجر عنب، وإنما كانت تجلب من الشام، وكان عامة شرابهم من نبيذ التمر، وقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ أنه حرم كل مسكر، وبين أنه خمر‏.‏

وكانوا يشربون النبيذ الحلو، وهو أن ينبذ في الماء تمر وزبيب، /أي‏:‏ يطرح فيه ـ والنبذ‏:‏ الطرح ـ ليحلو الماء لا سيما كثير من مياه الحجاز، فإن فيه ملوحة، فهذا النبيذ حلال بإجماع المسلمين؛ لأنه لا يسكر، كما يحل شرب عصير العنب قبل أن يصير مسكرًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن ينبذوا هذا النبيذ في أوعية الخشب، أو الجري، وهو ما يصنع من التراب، أو القرع، أو الظروف المزفتة، وأمرهم أن ينبذوا في الظروف التي تربط أفواهها بالأوكية؛ لأن الشدة تدب في النبيذ دبيبًا خفيفًا، ولا يشعر الإنسان، فربما شرب الإنسان ما قد دبت فيه الشدة المطربة، وهو لا يشعر، فإذا كان السقاء موكأ انشق الظرف، إذا غلا فيه النبيذ، فلا يقع الإنسان في محذور، وتلك الأوعية لا تنشق‏.‏

وروي عنه أنه صلى الله عليه وسلم رخص بعد هذا في الانتباذ في الأوعية، وقال‏:‏ ‏(‏كنت نهىتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا، ولا تشربوا المسكر‏)‏‏.‏ فاختلف الصحابة ومن بعدهم من العلماء، منهم من لم يبلغه النسخ أو لم يثبته، فنهى عن الانتباذ في الأوعية‏.‏ ومنهم من اعتقد ثبوته وأنه ناسخ فرخص في الانتباذ في الأوعية‏.‏ فسمع طائفة من الفقهاء أن بعض الصحابة كانوا يشربون النبيذ فاعتقدوا أنه المسكر، فترخصوا في شرب أنواع من الأشربة التي ليست من العنب والتمر، وترخصوا في المطبوخ من نبيذ التمر والزبيب إذا لم يسكر الشارب‏.‏

/والصواب ما عليه جماهير المسلمين‏:‏ أن كل مسكر خمر، يجلد شاربه، ولو شرب منه قطرة واحدة، لتداو أو غير تداو، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يتداوي بها، فقال‏:‏ ‏(‏إنها داء وليست بدواء‏)‏، ‏(‏وإن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها‏)‏‏.‏

والحد واجب إذا قامـت البينـة، أو اعتـرف الشارب؛ فإن وجـدت منـه رائحـة الخمر، أو رُئي وهو يتقيؤها ونحو ذلك‏.‏ فقد قيل‏:‏ لا يقام عليه الحد، لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمر، أو شربها جاهلا بها، أو مكرها ونحو ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ بل يجلد إذا عرف أن ذلك مسكر‏.‏ وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، كعثمان، وعلى، وابن مسعود؛ وعليه تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يصلح عليه الناس، وهو مذهب مالك، وأحمد في غالب نصوصه، وغيرهما‏.‏

والحشيشة المصنوعة من ورق العنب حرام ـ أيضا ـ يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر، من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، والخمر أخبث، من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة، وكلاهما يصد عن ذكر الله ـ تعالى ـ وعن الصلاة‏.‏

وقد توقف بعض الفقهاء المتأخرين في حدها، ورأي أن آكلها /يعزر بما دون الحد، حيث ظنها تغير العقل من غير طرب‏.‏ بمنزلة البنج، ولم نجد للعلماء المتقدمين فيها كلاما، وليس كذلك، بل آكلوها ينشون عنها، ويشتهونها، كشراب الخمر وأكثر، وتصدهم عن ذكر الله، وعن الصلاة‏.‏ إذا أكثروا منها، مع ما فيها من المفاسد الأخري‏:‏ من الدياثة والتخنث، وفساد المزاج والعقل وغير ذلك‏.‏

ولكن لما كانت جامدة مطعومة ليست شرابا، تنازع الفقهاء في نجاستها،على ثلاثة أقوال‏:‏ في مذهب أحمد وغيره‏.‏ فقيل‏:‏ هي نجسة كالخمر المشروبة، وهذا هو الاعتبار الصحيح‏.‏ وقيل‏:‏ لا؛ لجمودها‏.‏ وقيل‏:‏ يفرق بين جامدها ومائعها‏.‏ وبكل حال فهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظًا ومعني‏.‏ قال أبو موسي الأشعري ـ رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما بإلىمن‏:‏ البِتْع، وهو من العسل ينبذ حتى يشتد‏.‏ والمِزْر، وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد‏.‏ قال‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم وخواتيمه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏ متفق عليه في الصحيحين‏.‏

وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن العسل خمرًا، وأنا أنهى عن كل مسكر‏)‏‏.‏ رواه /أبو داود وغيره‏.‏ ولكن هذا في الصحيحين عن عمر موقوفا عليه‏:‏ أنه خطب به على منبر رسـول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ الخمر ما خامر العقل‏.‏ وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل خمر حرام‏)‏ رواهما مسلم في صحيحه‏.‏ وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ وروي أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال‏:‏‏(‏ما أسكر كثيره، فقليله حرام‏)‏‏.‏ وصححه الحفاظ‏.‏ وعن جابر ـ رضي الله عنه‏:‏أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له‏:‏ المِزْر، فقال‏:‏ ‏(‏أمسكر هو‏؟‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وما طينة الخبال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عَرَق أهل النار، أو عصارة أهل النار‏)‏‏.‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏ وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام‏)‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة، جمع رسول الله /صلى الله عليه وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم، كل ما غطـي العقـل وأسـكر، ولم يفرق بين نـوع ونـوع، ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا، على أن الخمر قد يصطبغ بها، والحشيشة قد تذاب في الماء وتشرب، فكل خمر يشرب ويؤكل، والحشيشة تؤكل وتشرب، وكل ذلك حرام، وإنما لم يتكلم المتقدمون في خصوصها؛ لأنه إنما حدث أكلها من قريب، في أواخر المائة السادسة، أو قريبا من ذلك، كما أنه قد أحدثت أشربة مسكرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها داخلة في الكلم الجوامع، من الكتاب والسنة‏.‏

 فصــل

ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة، وأجمع عليها المسلمون حد القذف، فإذا قذف الرجل محصنًا بالزنا أو اللواط، وجب عليه الحد ثمانون جلدة، والمحصن هنا‏:‏ هو الحر العفيف، وفي باب حد الزنا هو الذي وطئ وطأ كاملا في نكاح تام‏.‏

/ فصــل

وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، كالذي يقَبِّل الصبي والمرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل، كالدم والميتة، أو يقذف الناس بغير الزنا، أو يسرق من غير حرز، ولو شيئًا يسيرًا، أو يخون أمانته، كولاة أموال بيت المال أو الوقوف، ومال إلىتيم ونحو ذلك، إذا خانوا فيها، وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا، أو يغش في معاملته، كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفف المكيال والميزان، أو يشهد بالزور، أو يلقن شهادة الزور، أو يرتشي في حكمه، أو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يعتدي على رعيته، أو يتعزي بعزاء الجاهلية، أو يلبي داعي الجاهلية، إلى غير ذلك من أنواع المحرمات، فهؤلاء يعاقبون تعزيرًا وتنكيلا وتأديبا، بقدر ما يراه الوإلى، على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته‏.‏ فإذا كان كثيرًا زاد في العقوبة؛ بخلاف ما إذا كان قليلا‏.‏ وعلى حسب حال المذنب؛ فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته، بخلاف المقل من ذلك‏.‏ وعلى حسب كبر الذنب وصغره؛ فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم، بما لا يعاقب من لم يتعرض إلا لمرأة /واحدة، أو صبي واحد‏.‏

وليس لأقل التعزير حد، بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان، من قول وفعل، وترك قول، وترك فعل، فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له، وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ‏(‏الثلاثة الذين خُلِّفوا‏)‏، وقد يعزر بعزله عن ولايته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعزرون بذلك، وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين، كالجندي المقاتل إذا فر من الزحف؛ فإن الفرار من الزحف من الكبائر، وقطع أجره نوع تعزير له، وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم فعزله عن إمارته تعزير له‏.‏ وكذلك قد يعزر بالحبس، وقد يعزر بالضرب، وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا؛ كما روي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه أمر بمثل ذلك في شاهد الزور، فإن الكاذب سود الوجه، فسود وجهه، وقلب الحديث، فقلب ركوبه‏.‏

وأما أعلاه، فقد قيل‏:‏ ‏(‏لا يزاد على عشرة أسواط‏)‏‏.‏ وقال كثير من العلماء لا يبلغ به الحد‏.‏ ثم هم على قولين‏:‏ منهم من يقول‏:‏ ‏(‏لا يبلغ به أدني الحدود‏)‏‏:‏ لا يبلغ بالحر أدني حدود الحر، وهي الأربعون، أو الثمانون، ولا يبلغ بالعبد أدني حدود العبد، وهي /العشرون أو الأربعون‏.‏ وقيل‏:‏ بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ لا يبلغ بكل ذنب حد جنسه وإن زاد على حد جنس آخر، فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع إلىد، وإن ضرب أكثر من حد القاذف‏.‏ ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنا حد الزاني، وإن زاد على حد القاذف، كما روي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ أن رجلا نقش على خاتمه، وأخذ بذلك من بيت المال، فأمر به فضرب مائة ضربة، ثم ضربه في إلىوم الثاني مائة ضربة، ثم ضربه في إلىوم الثالث مائة ضربة‏.‏

وروي عن الخلفاء الراشدين، في رجل وامرأة وجدا في لحاف‏:‏ يضربان مائة‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي جارية امرأته‏:‏ ‏(‏إن كانت أحلتها له جلد مائة، وإن لم تكن أحلتها له رجم‏)‏‏.‏ وهذه الأقوال في مذهب أحمد، وغيره‏.‏ والقولان الأولان في مذهب الشافعي، وغيره‏.‏

وأما مالك وغيره، فحكي عنه‏:‏ أن من الجرائم ما يبلغ به القتل‏.‏ ووافقه بعض أصحاب أحمد، في مثل الجاسوس المسلم، إذا تجسس للعدو على المسلمين، فإن أحمد توقف في قتله، وجوز مالك وبعض الحنابلة ـ كابن عقيل ـ قتله، ومنعه أبو حنيفة، والشافعي وبعض الحنابلة، كالقاضي أبي يعلى‏.‏

/وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما‏:‏ قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، وكذلك كثير من أصحاب مالك‏.‏ وقالوا‏:‏ إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد في الأرض، لا لأجل الردة، وكذلك قد قيل في قتل الساحر؛ فإن أكثر العلماء على أنه يقتل، وقد روي عن جندب ـ رضي الله عنه ـ موقوفًا ومرفوعًا‏:‏ ‏(‏إن حد الساحر ضربه بالسيف‏)‏ رواه الترمذي‏.‏ وعن عمر وعثمان وحفصة وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة ـ رضي الله عنهم‏:‏ قتله‏.‏ فقال بعض العلماء‏:‏ لأجل الكفر، وقال بعضهم‏:‏ لأجل الفساد في الأرض‏.‏ لكن جمهور هؤلاء يرون قتله حدا‏.‏ وكذلك أبو حنيفة يعزر بالقتل فيما تكرر من الجرائم، إذا كان جنسه يوجب القتل، كما يقتل من تكرر منه اللواط، أو اغتيال النفوس لأخذ المال ونحو ذلك‏.‏

وقد يستدل على أن المفسد متى لم ينقطع شره إلا بقتله فإنه يقتل؛ بما رواه مسلم في صحيحه، عن عرفجة الأشجعي ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏ستكون هنات، وهنات‏.‏ فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف، كائنا من كان‏)‏‏.‏

/وكذلك قد يقال في أمره بقتل شارب الخمر في الرابعة؛ بدليل ما رواه أحمد في المسند، عن ديلم الحميري ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه، إنا بأرض نعالج بها عملا شديداً، وإنا نتخذ شراباً من القمح نتقوي به على أعمالنا، وعلى برد بلادنا‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏هل يسكر‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فاجتنبوه‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ إن الناس غير تاركيه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن لم يتركوه فاقتلوهم‏)‏‏.‏ وهذا لأن المفسد كالصائل‏.‏ فإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتل‏.‏

وجماع ذلك أن العقوبة نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ على ذنب ماض، جزاء بما كسب نكالا من اللّه، كجلد الشارب والقاذف، وقطع المحارب والسارق‏.‏

والثاني‏:‏ العقوبة لتأدية حق واجب، وترك محرم في المستقبل، كما يستتاب المرتد حتى يسلم، فإن تاب، وإلا قتل‏.‏ وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها، فالتعزير في هذا الضرب أشد منه في الضرب الأول‏.‏ ولهذا يجوز أن يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الصلاة الواجبة، أو يؤدي الواجب عليه، والحديث الذي في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يجلد فوق عشرة /أسواط إلا في حد من حدود اللّه‏)‏، قد فسره طائفة من أهل العلم، بأن المراد بحدود اللّه ما حرم لحق اللّه؛ فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام، مثل آخر الحلال وأول الحرام‏.‏ فيقال في الأول‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏ ويقال في الثاني‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏

وأما تسمية العقوبة المقدرة حداً، فهو عرف حادث، ومراد الحديث‏:‏ أن من ضرب لحق نفسه، كضرب الرجل امرأته في النشوز، لا يزيد على عشر جلدات‏.‏

والجلد الذي جاءت به الشريعة‏:‏ هو الجلد المعتدل بالسوط؛ فإن خيار الأمور أوساطها، قـال على ـ رضي اللّه عنـه‏:‏ ضرب بين ضربين، وسـوط بين سوطين‏.‏ ولا يكـون الجلد بالعصي ولا بالمقارع، ولا يكتفي فيه بالدِّرَّةِ بل الدرة تستعمل في التعزير‏.‏

أما الحدود، فلابد فيها من الجلد بالسوط، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يؤدب بالدرة، فإذا جاءت الحدود دعا بالسوط، ولا تجرد ثيابه كلها، بل ينزع عنه ما يمنع ألم الضرب، من الحشايا والفراء ونحو ذلك‏.‏ ولا يربط إذا لم يحتج إلى ذلك، ولا يضرب وجهه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا قاتل أحدكم /فليتق الوجه ولا يضرب مقاتله‏)‏، فإن المقصود تأديبه لا قتله، ويعطي كل عضو حظه من الضرب، كالظهر والأكتاف والفخذين ونحو ذلك‏.‏